السبت، 6 سبتمبر 2014

معاوية بن أبي سفيان

معاوية بن أبي سفيان (ع)

صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ، أمير المؤمنين ، ملك الإسلام ، أبو عبد الرحمن ، القرشي الأموي المكي .

وأمه هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي .

قيل : إنه أسلم قبل أبيه وقت عمرة القضاء ، وبقي يخاف من اللحاق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من أبيه ، ولكن ما ظهر إسلامه إلا يوم الفتح .

حدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكتب له مرات يسيرة ، وحدث أيضا عن أخته -أم المؤمنين- أم حبيبة ، وعن أبي بكر ، وعمر .

روى عنه : ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وأبو صالح السمان ، وأبو إدريس الخولاني ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعروة بن الزبير ، وسعيد المقبري ، وخالد بن معدان ، وهمام بن منبه ، وعبد الله بن عامر المقرئ ، والقاسم أبو عبد الرحمن ، وعمير بن هانئ ، وعبادة بن نسي ، وسالم بن عبد الله ، ومحمد بن سيرين ، ووالد عمرو بن شعيب ، وخلق سواهم .

وحدث عنه من الصحابة أيضا : جرير بن عبد الله ، وأبو سعيد ، والنعمان بن بشير ، وابن الزبير .

ذكر ابن أبي الدنيا وغيره : أن معاوية كان طويلا ، أبيض ، جميلا ، إذا ضحك ، انقلبت شفته العليا . وكان يخضب .

روى سعيد بن عبد العزيز : عن أبي عبد رب : رأيت معاوية يخضب بالصفرة كأن لحيته الذهب .

قلت : كان ذلك لائقا في الزمان واليوم لو فعل لاستهجن . وروى عبد الجبار بن عمر ، عن الزهري ، عن عمر بن عبد العزير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ : سمع معاوية على منبر المدينة يقول : أين فقهاؤكم يا أهل المدينة ؟ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن هذه القصة ثم وضعها على رأسه . فلم أر على عروس ولا على غيرها أجمل منها على معاوية .

وعن أبان بن عثمان : كان معاوية وهو غلام يمشي مع أمه هند ، فعثر ، فقالت : قم لا رفعك الله ، وأعرابي ينظر ، فقال : لم تقولين له ؟ فوالله إني لأظنه سيسود قومه ، قالت : لا رفعه إن لم يسد إلا قومه .

قال أسلم مولى عمر : قدم علينا معاوية وهو أبض الناس وأجملهم .

ابن إسحاق : عن أبيه : رأيت معاوية بالأبطح أبيض الرأس واللحية كأنه فالج .

قال مصعب الزبيري: كان معاوية يقول: أسلمت عام القضية .

ابن سعد : حدثنا محمد بن عمر ، حدثني أبو بكر بن أبي سبرة ، عن عمر بن عبد الله العنسي ، قال معاوية : لما كان عام الحديبية ، وصدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البيت ، وكتبوا بينهم القضية ، وقع الإسلام في قلبي ، فذكرت لأمي ، فقالت : إياك أن تخالف أباك ، فأخفيت إسلامي ، فوالله لقد رحل رسول الله من الحديبية وإني مصدق به ، ودخل مكة عام عمرة القضية وأنا مسلم . وعلم أبو سفيان بإسلامي ، فقال لي يوما : لكن أخوك خير منك وهو على ديني ، فقلت : لم آل نفسي خيرا ، وأظهرت إسلامي يوم الفتح ، فرحب بي النبي -صلى الله عليه وسلم- وكتبت له .

ثم قال الواقدي : وشهد معه حنينا، فأعطاه من الغنائم مائة من الإبل ، وأربعين أوقية .

قلت : الواقدي لا يعي ما يقول ، فإن كان معاوية كما نقل قديم الإسلام ، فلماذا يتألفه النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟ ولو كان أعطاه ، لما قال عندما خطب فاطمة بنت قيس : أما معاوية فصعلوك لا مال له .

ونقل المفضل الغلابي عن أبي الحسن الكوفي ، قال : كان زيد بن ثابت كاتب الوحي ، وكان معاوية كاتبا فيما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين العرب .

عمرو بن مرة : عن عبد الله بن الحارث ، عن زهير بن الأقمر ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان معاوية يكتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم .

أبو عوانة : عن أبي حمزة ، عن ابن عباس ، قال : كنت ألعب مع الغلمان ، فدعاني النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال : ادع لي معاوية . وكان يكتب الوحي .

رواه أحمد في "مسنده" وزاد فيه الحاكم : حدثنا علي بن حمشاد ، حدثنا هشام بن علي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة قال : فدعوته ، فقيل : إنه يأكل . فأتيت ، فقلت : يا رسول الله ، هو يأكل . قال : اذهب فادعه. فأتيته الثانية ، فقيل : إنه يأكل ، فأتيت رسول الله ، فأخبرته ، فقال في الثالثة : لا أشبع الله بطنه . قال : فما شبع بعدها .

رواه الطيالسي : حدثنا أبو عوانة ، وهشيم ، وفيه : لا أشبع الله بطنه .

فسره بعض المحبين قال : لا أشبع الله بطنه ; حتى لا يكون ممن يجوع يوم القيامة ، لأن الخبر عنه أنه قال : أطول الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة . قلت : هذا ما صح ، والتأويل ركيك ، وأشبه منه قوله -عليه السلام- : اللهم من سببته أو شتمته من الأمة فاجعلها له رحمة أو كما قال . وقد كان معاوية معدودا من الأكلة .

جماعة : عن معاوية بن صالح ، عن يونس بن سيف ، عن الحارث بن زياد ، عن أبي رهم السماعي عن العرباض ، سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو إلى السحور في شهر رمضان : هلم إلى الغداء المبارك . ثم سمعته يقول : اللهم علم معاوية الكتاب ، والحساب ، وقه العذاب .

رواه ابن مهدي ، وأسد السنة ، وأبو صالح ، وبشر بن السري عنه . وهذا في جزء ابن عرفة معضل سقط منه العرباض وأبو رهم ، وللحديث شاهد قوي .

أبو مسهر : حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن ربيعة بن يزيد ، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني -وكان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن النبي قال لمعاوية : اللهم علمه الكتاب ، والحساب ، وقه العذاب .

أبو هلال محمد بن سليم : حدثنا جبلة بن عطية ، عن رجل ، عن مسلمة بن مخلد ، أنه قال لعمرو بن العاص ومعاوية يأكل : إن ابن عمك هذا لمخضد ، أما إني أقول هذا ، وقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : اللهم علمه الكتاب ، ومكن له في البلاد ، وقه العذاب .

فيه رجل مجهول ، وجاء نحوه من مراسيل الزهري ، ومراسيل عروة بن رويم ، وحريز بن عثمان .

مروان بن محمد : حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، حدثني ربيعة بن يزيد ، سمعت عبد الرحمن بن أبي عميرة ، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لمعاوية : اللهم اجعله هاديا ، مهديا ، واهد به .

حسنه الترمذي .

صفوان بن صالح : حدثنا الوليد ومروان بن محمد ، حدثنا سعيد نحوه .

وقال أبو زرعة النصري ، وعباس الترقفي حدثنا أبو مسهر ، حدثنا سعيد نحوه ، وفيه : سمعت رسول الله .

أحمد بن المعلى : حدثنا محمود ، حدثنا عمر بن عبد الواحد ، عن سعيد ، عن ربيعة : أن بعثا من أهل الشام كانوا مرابطين بآمد ، وأن عمير بن سعد كان على حمص ، فعزله عثمان ، وولى معاوية ، فبلغ ذلك أهل حمص ، فشق عليهم ، فقال عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لمعاوية : اللهم اجعله هاديا ، مهديا واهد به ، واهده .

أبو بكر بن أبي داود : حدثنا محمود بن خالد ، حدثنا الوليد وعمر بن عبد الواحد ، عن سعيد ، عن ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس ، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة ; سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لمعاوية : اللهم اجعله هاديا ، مهديا ، واهد به .

عمرو بن واقد : عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس ، قال : لما عزل عمر عمير بن سعد عن حمص ، ولى معاوية ، فقال الناس في ذلك . فقال عمير : لا تذكروا معاوية إلا بخير ، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : اللهم اهد به .

رواه عن الذهلي ، عن النفيلي ، عنه .

هشام بن عمار ، حدثنا عبد العزيز بن الوليد بن سليمان سمعت أبي يقول : إن عمر ولى معاوية . فقالوا : ولاه حديث السن . فقال : تلومونني ، وأنا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : اللهم اجعله هاديا مهديا ، واهد به هذا منقطع .

محمد بن شعيب : حدثنا مروان بن جناح ، عن يونس بن ميسرة : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استأذن أبا بكر وعمر في أمر ، فقالا : الله ورسوله أعلم ، فقال : أشيرا علي . ثم قال : ادعوا معاوية . فقال : أحضروه أمركم ، واشهدوه أمركم ، فإنه قوي أمين .

ورواه نعيم بن حماد ، عن ابن شعيب ; فوصله بعبد الله بن بسر .

أبو مسهر وابن عائذ : عن صدقة بن خالد ، عن وحشي بن حرب بن وحشي ، عن أبيه ، عن جده قال : أردف النبي -صلى الله عليه وسلم- معاوية خلفه فقال : ما يليني منك ؟ قال : بطني يا رسول الله . قال : اللهم املأه علما .

زاد فيه أبو مسهر : وحلما .

قال صالح جزرة : لا يشتغل بوحشي ولا بأبيه .

بقية : عن بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن جبير بن نفير : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسير ومعه جماعة ، فذكروا الشام ، فقال رجل : كيف نستطيع الشام وفيه الروم ؟ . قال : ومعاوية في القوم -وبيده عصا- فضرب بها كتف معاوية ، وقال : يكفيكم الله بهذا .

هذا مرسل قوي .

فهذه أحاديث مقاربة .

وقد ساق ابن عساكر في الترجمة أحاديث واهية وباطلة ، طول بها جدا .

وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه ، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء ، وإما قد ولدوا في الشام على حبه ، وتربى أولادهم على ذلك . وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة ، وعدد كثير من التابعين والفضلاء ، وحاربوا معه أهل العراق ، ونشئوا على النصب ، نعوذ بالله من الهوى . كما قد نشأ جيش علي -رضي الله عنه ورعيته إلا الخوارج منهم- على حبه والقيام معه ، وبغض من بغى عليه والتبري منهم ، وغلا خلق منهم في التشيع . فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم ، لا يكاد يشاهد فيه إلا غاليا في الحب ، مفرطا في البغض ، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال ؟ فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق ، واتضح من الطرفين ، وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين ، وتبصرنا ، فعذرنا ، واستغفرنا ، وأحببنا باقتصاد ، وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة ، أو بخطأ -إن شاء الله- مغفور ، وقلنا كما علمنا الله رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا وترضينا أيضا عمن اعتزل الفريقين ، كسعد بن أبي وقاص ، وابن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وسعيد بن زيد ، وخلق . وتبرأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليا ، وكفروا الفريقين . فالخوارج كلاب النار ، قد مرقوا من الدين ، ومع هذا فلا نقطع لهم بخلود النار ، كما نقطع به لعبدة الأصنام والصلبان .

فمن الأباطيل المختلقة :

عن واثلة مرفوعا : كاد معاوية أن يبعث نبيا من حلمه وائتمانه على كلام ربي .

وعن عثمان مرفوعا : هنيئا لك يا معاوية ، لقد أصبحت أمينا على خبر السماء .

عن أبي موسى : نزل عليه الوحي ، فلما سري عنه ، طلب معاوية ، فلما كتبها -يعني آية الكرسي- قال : غفر الله لك يا معاوية ما تقدم إلى يوم القيامة .

عن مري الحوراني ، عن رجل : نزل جبريل ، فقال : يا محمد ليس لك أن تعزل من اختاره الله لكتابة وحيه ، فأقره إنه أمين .

عن سعد مرفوعا : يحشر معاوية وعليه حلة من نور .

عن أنس : هبط جبريل بقلم من ذهب ، فقال يا محمد : إن العلي الأعلى يقول : قد أهديت القلم من فوق عرشي إلى معاوية ، فمره أن يكتب آية الكرسي به ويشكله ويعجمه ، فذكر خبرا طويلا .

وعن ابن عباس ، قال : لما أنزلت آية الكرسي ، دعا معاوية ، فلم يجد قلما ، وذلك أن الله أمر جبريل أن يأخذ الأقلام من دواته ، فقام ليجيء بقلم ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : خذ القلم من أذنك ، فإذا قلم ذهب مكتوب عليه لا اله إلا الله ، هدية من الله إلى أمينه معاوية .

وعن عائشة مرفوعا : كأني أنظر إلى سويقتي معاوية ترفلان في الجنة .

عن علي ، قال : لأخرجن ما في عنقي لمعاوية ، قد استكتبه نبي الله وأنا جالس ، فعلمت أن ذلك لم يكن من رسول الله ، ولكن من الله .

عن جابر مرفوعا : الأمناء عند الله سبعة ; القلم ، وجبريل ، وأنا ، ومعاوية ، واللوح ، وإسرافيل ، وميكائيل .

عن زيد بن ثابت : دخل النبي -عليه السلام- على أم حبيبة ، ومعاوية نائم على فخذها ، فقال : أتحبينه ؟ قالت : نعم . قال : لله أشد حبا له منك له ، كأني أراه على رفارف الجنة .

عن جعفر : أنه أهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم- سفرجل ، فأعطى معاوية منه ثلاثا ، وقال : القني بهن في الجنة .

قلت : وجعفر قد استشهد قبل قدوم معاوية مسلما .

وعن حذيفة مرفوعا : يبعث معاوية وعليه رداء من نور الإيمان .

عن أبي سعيد مرفوعا : يخرج معاوية من قبره عليه رداء من سندس مرصع بالدر والياقوت .

عن علي : أن جبريل نزل ، فقال : استكتب معاوية ، فإنه أمين .

أبو هريرة مرفوعا : الأمناء ثلاثة ; أنا ، وجبريل ، ومعاوية .

وعن واثلة : بنحوه .

أبو هريرة : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ناول معاوية سهما ، وقال : خذه حتى توافيني به في الجنة .

أنس مرفوعا : لا أفتقد أحدا غير معاوية ، لا أراه سبعين عاما ; فإذا كان بعد أقبل على ناقة من المسك ، فأقول : أين كنت ؟ فيقول : في روضة تحت العرش . . . الحديث .

وعن بعضهم : جاء جبريل بورقة آس عليها : لا إله إلا الله ، حب معاوية فرض على عبادي .

ابن عمر مرفوعا : يا معاوية ; أنت مني وأنا منك ، لتزاحمني على باب الجنة .

فهذه الأحاديث ظاهرة الوضع والله أعلم .

ويروى في فضائل معاوية أشياء ضعيفة تحتمل ، منها :

فضيل بن مرزوق : عن رجل ، عن أنس مرفوعا : دعوا لي أصحابي وأصهاري .

أحمد في "المسند" : حدثنا روح ، حدثنا أبو أمية عمرو بن يحيى بن سعيد ، حدثنا جدي : أن معاوية أخذ الإداوة ، وتبع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرفع رأسه إليه ، وقال : يا معاوية ; إن وليت أمرا ، فاتق الله واعدل . فما زلت أظن أني مبتلى بعمل لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ابتليت .

ولهذا طرق مقاربة :

يحيى بن أبي زأئدة ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن عبد الملك بن عمير ، قال معاوية : والله ما حملني على الخلافة إلا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لي : يا معاوية إن ملكت فأحسن .

ابن مهاجر ضعيف ، والخبر مرسل .

الأصم : حدثنا أبي ، سمعت ابن راهويه يقول : لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضل معاوية شيء .

ابن فضيل : حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص ، عن أبي برزة ; كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمع صوت غناء ، فقال : انظروا ما هذا ؟ فصعدت فنظرت ، فإذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنيان ، فجئت فأخبرته ، فقال : اللهم أركسهما في الفتنة ركسا ، ودعهما في النار دعا .

هذا مما أنكر على يزيد .

ابن لهيعة : عن يونس ، عن ابن شهاب : قدم عمر الجابية ، فبقَّى على الشام أميرين ، أبا عبيدة بن الجراح ، ويزيد بن أبي سفيان . ثم توفي يزيد . فنعاه عمر إلى أبي سفيان ، فقال : ومن أمرت مكانه ؟ قال : معاوية ، فقال : وصلتك يا أمير المؤمنين رحم .

وقال خليفة : ثم جمع عمر الشام كلها لمعاوية ، وأقره عثمان .

قلت : حسبك بمن يؤمره عمر ، ثم عثمان على إقليم -وهو ثغر- فيضبطه ، ويقوم به أتم قيام ، ويرضي الناس بسخائه وحلمه ، وإن كان بعضهم تألم مرة منه ، وكذلك فليكن الملك . وإن كان غيره من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرا منه بكثير وأفضل وأصلح ، فهذا الرجل ساد ، وساس العالم بكمال عقله ، وفرط حلمه ، وسعة نفسه ، وقوة دهائه ، ورأيه . وله هنات وأمور ، والله الموعد .

وكان محببا إلى رعيته . عمل نيابة الشام عشرين سنة ، والخلافة عشرين سنة ، ولم يهجه أحد في دولته ، بل دانت له الأمم ، وحكم على العرب والعجم ، وكان ملكه على الحرمين ، ومصر ، والشام ، والعراق ، وخراسان ، وفارس ، والجزيرة ، واليمن ، والمغرب ، وغير ذلك .

عن إسماعيل بن أمية : أن عمر أفرد معاوية بالشام ، ورزقه في الشهر ثمانين دينارا . والمحفوظ أن الذي أفرد معاوية بالشام عثمان . وعن رجل ، قال : لما قدم عمر الشام ، تلقاه معاوية في موكب عظيم وهيئة ، فلما دنا منه ، قال : أنت صاحب الموكب العظيم ؟ قال : نعم . قال : مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك . قال : نعم . قال : ولم تفعل ذلك ؟ قال : نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير ، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يرهبهم فإن نهيتني انتهيت ، قال : يا معاوية ! ما أسألك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس . لئن كان ما قلت حقا ، إنه لرأي أريب ، وإن كان باطلا ، فإنه لخدعة أديب . قال : فمرني . قال : لا آمرك ولا أنهاك . فقيل : يا أمير المؤمنين ! ما أحسن ما صدر عما أوردته . قال : لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه .

ورويت بإسنادين عن العتبي نحوها .

مسلم بن جندب ، عن أسلم مولى عمر ، قال : قدم معاوية وهو أبض الناس وأجملهم ; فخرج مع عمر إلى الحج ، وكان عمر ينظر إليه ، فيعجب ، ويضع أصبعه على متنه ، ثم يرفعها عن مثل الشراك فيقول : بخ بخ . نحن إذا خير الناس إن جمع لنا خير الدنيا والآخرة . قال : يا أمير المؤمنين ! سأحدثك ; إنا بأرض الحمامات والريف . قال عمر : سأحدثك ، ما بك إلا إلطافك نفسك بأطيب الطعام ، وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك ، وذوو الحاجات وراء الباب . قال : فلما جئنا ذا طوى ، أخرج معاوية حلة ، فلبسها ، فوجد عمر منها طيبا ، فقال : يعمد أحدكم يخرج حاجا تفلا حتى إذا جاء أعظم بلد لله حرمة ، أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما ، قال : إنما لبستهما لأدخل فيهما على عشيرتي . والله لقد بلغني أذاك هنا وبالشام ، والله يعلم أني قد عرفت الحياء فيه . ونزع معاوية الثوبين ، ولبس ثوبي إحرامه .

قال المدائني : كان عمر إذا نظر إلى معاوية ، قال : هذا كسرى العرب .

ابن أبي ذئب ، عن المقبري ; قال عمر : تعجبون من دهاء هرقل وكسرى وتدعون معاوية ؟

عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جده ، قال : دخل معاوية على عمر ، وعليه حلة خضراء . فنظر إليها الصحابة . قال : فوثب إليه عمر بالدرة ، وجعل يقول : الله الله يا أمير المؤمنين ، فيم فيم ؟ فلم يكلمه حتى رجع . فقالوا : لم ضربته وما في قومك مثله ؟ قال : ما رأيت وما بلغني إلا خيرا ، ولكنه رأيته ، وأشار بيده ، فأحببت أن أضع منه .

قال أحمد بن حنبل : فتحت قيسارية سنة تسع عشرة وأميرها معاوية .

وقال يزيد بن عبيدة : غزا معاوية قبرص سنة خمس عشرين .

وقال الزهري : نزع عثمان عمير بن سعد ، وجمع الشام لمعاوية .

وعن الزهري قال : لم ينفرد معاوية بالشام حتى استخلف عثمان .

سعيد بن عبد العزيز : عن إسماعيل بن عبيد الله ، عن قيس بن الحارث ، عن الصنابحي ، عن أبي الدرداء ، قال : ما رأيت أشبه صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أميركم هذا ، يعني معاوية .

وكيع : عن الأعمش ، عن أبي صالح قال : كان الحادي يحدو بعثمان : إن الأمير بعده علي

وفي الزبير خلف رضي

فقال كعب : بل هو صاحب البغلة الشهباء ، يعني : معاوية . فبلغ ذلك معاوية ، فأتاه فقال : يا أبا إسحاق تقول هذا وهاهنا علي والزبير وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ! قال : أنت صاحبها .

قال الواقدي : لما قتل عثمان ، بعثت نائلة بنت الفرافصة امرأته إلى معاوية كتابا بما جرى ، وبعثت بقميصه بالدم ، فقرأ معاوية الكتاب ، وطيف بالقميص في أجناد الشام ، وحرضهم على الطلب بدمه . فقال ابن عباس لعلي : اكتب إلى معاوية ، فأقره على الشام ، وأطمعه يكفك نفسه وناحيته . فإذا بايع لك الناس ، أقررته أو عزلته . قال : إنه لا يرضى حتى أعطيه عهد الله وميثاقه أن لا أعزله . وبلغ معاوية فقال : والله لا ألي له شيئا ، ولا أبايعه . وأظهر بالشام أن الزبير قادم عليكم ونبايعه . فلما بلغه مقتله ، ترحم عليه ، وبعث علي جريرا إلى معاوية ، فكلمه وعظم عليا ، فأبى أن يبايع ، فرد جرير ، وأجمع على المسير إلى صفين ، فبعث معاوية أبا مسلم الخولاني إلى علي بأشياء يطلبها منه ، وأن يدفع إليه قتلة عثمان ، فأبى ، ورجع أبو مسلم ، وجرت بينهما رسائل ، وقصد كل منهما الآخر ، فالتقوا لسبع بقين من المحرم سنة سبع .

وفي أول صفر شبت الحرب ، وقتل خلق ، وضجروا ، فرفع أهل الشام المصاحف ، وقالوا : ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه ، وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص ، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتابا على أن يوافوا أذرح . ويحكموا حكمين .

قال : فلم يقع اتفاق . ورجع علي إلى الكوفة بالدغل من أصحابه والاختلاف . فخرج منهم الخوارج ، وأنكروا تحكيمه ، وقالوا : لا حكم إلا لله . ورجع معاوية بالألفة والاجتماع . وبايعه أهل الشام بالخلافة في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين . فكان يبعث الغارات ، فيقتلون من كان في طاعة علي ، أو من أعان على قتل عثمان . وبعث بسر بن أبي أرطاة إلى الحجاز واليمن يستعرض الناس ، فقتل باليمن عبد الرحمن وقثما ولدي عبيد الله بن عباس ، ثم استشهد علي في رمضان سنة أربعين .

وصالح الحسن بن علي معاوية ، وبايعه ، وسمي عام الجماعة فاستعمل معاوية على الكوفة المغيرة بن شعبة ، وعلى البصرة عبد الله بن عامر بن كريز ، وعلى المدينة أخاه عتبة ثم مروان ، وعلى مصر عمرو بن العاص ، وحج بالناس سنة خمسين . وكان على قضائه بالشام فضالة بن عبيد .

ثم اعتمر سنة ست وخمسين في رجب ، وكان بينه وبين الحسين ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وابن أبي بكر ، كلام في بيعة العهد ليزيد ، ثم قال : إني متكلم بكلام ، فلا تردوا علي أقتلكم ، فخطب ، وأظهر أنهم قد بايعوا ، وسكتوا ولم ينكروا ورحل على هذا . وادعى زيادا أنه أخوه فولاه الكوفة بعد المغيرة ، فكتب إليه في حجر بن عدي وأصحابه ، وحملهم إليه ، فقتلهم بمرج عذراء . ثم ضم الكوفة والبصرة إلى زياد ، فمات ، فولاهما ابنه عبيد الله بن زياد . عن عبد المجيد بن سهيل ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : استعملني عثمان على الحج ، ثم قدمت وقد بويع لعلي ، فقال لي : سر إلى الشام ، فقد وليتكها . قلت : ما هذا برأي ، معاوية أموي ، وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام ، ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان ، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني ، قال علي : ولم ؟ قلت : لقرابة ما بيني وبينك ، وأن كل من حمل عليك حمل علي . ولكن اكتب إليه ، فمنه وعده ، فأبى علي ، وقال : لا والله لا كان هذا أبدا .

مجالد : عن الشعبي ، قال : أرسلت أم حبيبة إلى أهل عثمان : أرسلوا إلي بثياب عثمان التي قتل فيها ، فبعثوا بقميصه بالدم وبالخصلة التي نتفت من لحيته ، ودعت النعمان بن بشير ، فبعثت به إلى معاوية ، فصعد معاوية المنبر ، ونشر القميص ، وجمع الناس ، ودعا إلى الطلب بدمه ، فقام أهل الشام ، وقالوا : هو ابن عمك وأنت وليه ونحن الطالبون معك بدمه .

ابن شوذب : عن مطر الوراق ، عن زهدم الجرمي ، قال : كنا في سمر ابن عباس ، فقال : لما كان من أمر هذا الرجل ما كان ، يعني عثمان ، قلت لعلي : اعتزل الناس ، فلو كنت في جحر لطلبت حتى تستخرج ، فعصاني ، وايم الله ليتأمرن عليكم معاوية ، وذلك أن الله يقول : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا .

يونس : عن ابن شهاب ، قال : لمل بلغ معاوية هزيمة يوم الجمل وظهور علي ، دعا أهل الشام للقتال معه على الشورى والطلب بدم عثمان ، فبايعوه على ذلك أميرا غير خليفة .

وفي كتاب صفين ليحيى بن سليمان الجعفي بإسناد له : أن معاوية قال لجرير البجلي لما قدم عليه رسولا بعد محاورة طويلة : اكتب إلى علي أن يجعل لي الشام ، وأنا أبايع له ما عاش ، فكتب بذلك إلى علي ، ففشا كتابه ، فكتب إليه الوليد بن عقبة : معـاوي إن الشام شامك فاعتصم

بـشامك لا تدخل عليك الأفاعيا وحــام علـيها بالقـنابل والقنا

ولا تك مخشوش الذراعين وانيا فـإن عليـا نـاظر مـا تجيبـه

فـأهد له حربا تشيب النواصيا

ثم قال الجعفي : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن أبيه ، قال : جاء أبو مسلم الخولاني وأناس إلى معاوية ، وقالوا : أنت تنازع عليا أم أنت مثله ؟ فقال : لا والله ، إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما ، وأنا ابن عمه ، والطالب بدمه ، فائتوه ، فقولوا له ، فليدفع إلي قتلة عثمان ، وأسلم له . فأتوا عليا ، فكلموه ، فلم يدفعهم إليه .

عمرو بن شمر : عن جابر الجعفي ، عن الشعبي ، أو أبي جعفر ، قال : لما ظهر أمر معاوية ، دعا علي رجلا ، وأمره أن يسير إلى دمشق ، فيعقل راحلته على باب المسجد ، ويدخل بهيئة السفر ، ففعل . وكان وصاه . فسأله أهل الشام ، فقال : من العراق . قالوا : وما وراءك ؟ قال : تركت عليا قد حشد إليكم ، ونهد في أهل العراق . فبلغ معاوية ، فبعث أبا الأعور يحقق أمره فأتاه ، فأخبره ، فنودي : الصلاة جامعة . وامتلأ المسجد ، فصعد معاوية وتشهد ، ثم قال : إن عليا قد نهد إليكم ، فما الرأي ؟ فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم ، ولم يرفع أحد إليه طرفه ، فقام ذو الكلاع الحميري فقال : عليك الرأي ، وعلينا أم فعال ، يعني الفعال ، فنزل معاوية ونودي : من تخلف عن معسكره بعد ثلاث أحل بنفسه ، فرد رسول علي ، حتى وافاه ، فأخبره ، فأمر ، فنودي : الصلاة جامعة . واجتمع الناس ، فصعد المنبر ، وقال : إن رسولي قد قدم ، وأخبرني أن معاوية قد نهد إليكم ، فما الرأي ؟ فأضب أهل المسجد يقولون : الرأي كذا ، الرأي كذا ، فلم يفهم علي من كثرة من تكلم ، فنزل وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ذهب بها ابن أكالة الأكباد .

الأعمش : عمن رأى عليا يوم صفين يصفق بيديه ، ويعض عليها ، ويقول : يا عجبا ! أعصى ويطاع معاوية . أبو حاتم السجستاني : عن أبي عبيدة ، قال : قال معاوية : لقد وضعت رجلي في الركاب ، وهممت يوم صفين بالهزيمة ، فما منعني إلا قول ابن الإطنابة : أبــت لـي عفـتـي وأبى بلائي

وأخذي الـحمد بالـثمن الربيح وإكـراهي عـلى المكـروه نفسي

وضـربي هامـة البطل المشيح وقـولي كلمـا جشـأت وجاشـت

مكـانك تحـمدي أو تسـتريحي

قال الأوزاعي : سأل رجل الحسن البصري عن علي وعثمان ، فقال : كانت لهذا سابقة ولهذا سابقة ، ولهذا قرابة ولهذا قرابة ، وابتلي هذا ، وعوفي هذا . فسأله عن علي ومعاوية ، فقال : كان لهذا قرابة ولهذا قرابة ، ولهذا سابقة وليس لهذا سابقة ، وابتليا جميعا .

قلت : قتل بين الفريقين نحو من ستين ألفا . وقيل : سبعون ألفا . وقتل عمار مع علي ، وتبين للناس قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : تقتله الفئة الباغية . الفسوي : حدثنا حجاج بن أبي منيع ، حدثنا جدي ، عن الزهري ، عن أنس قال : تعاهد ثلاثة من أهل العراق على قتل معاوية ، وعمرو بن العاص ، وحبيب بن مسلمة . وأقبلوا بعد بيعة معاوية بالخلافة حتى قدموا إيلياء ، فصلوا من السحر في المسجد ، فلما خرج معاوية لصلاة الفجر ، كبر ، فلما سجد انبطح أحدهم على ظهر الحرسي الساجد بينه وبين معاوية حتى طعن معاوية في مأكمته . فانصرف معاوية ، وقال : أتموا صلاتكم ، وأمسك الرجل ، فقال الطبيب : إن لم يكن الخنجر مسموما ، فلا بأس عليك . فأعد الطبيب عقاقيره ، ثم لحس الخنجر ، فلم يجده مسموما ، فكبر ، وكبر من عنده وقيل : ليس بأمير المؤمنين بأس .

قلت : هذه المرة غير المرة التي جرح فيها وقتما قتل علي -رضي الله عنه- فإن تلك فلق أليته وسقي أدوية خلصته من السم ، لكن قطع نسله .

أيوب بن جابر : عن أبي إسحاق ، عن الأسود ; قلت لعائشة : ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد في الخلافة ؟ قالت : وما يعجب ؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر . وقد ملك فرعون مصر أربع مائة سنة .

زيد بن أبي الزرقاء : عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم قال : قال علي : قتلاي وقتلى معاوية في الجنة .

صدقة بن خالد : عن زيد بن واقد ، عن أبيه ، عن أشياخهم : أن معاوية لما بويع ، وبلغه قتال علي أهل النهروان كاتب وجوه من معه مثل الأشعث ، ومناهم وبذل لهم حتى مالوا إلى معاوية ، وتثاقلوا عن المسير مع علي ، فكان يقول فلا يلتفت إلى قوله . وكان معاوية يقول : لقد حاربت عليا بعد صفين بغير جيش ولا عتاد .

شعبة : أنبأنا محمد بن عبيد الله الثقفي ، سمع أبا صالح يقول : شهدت عليا وضع المصحف على رأسه ، حتى سمعت تقعقع الورق فقال : اللهم إني سألتهم ما فيه ، فمنعوني ، اللهم إني قد مللتهم وملوني ، وأبغضتهم وأبغضوني ، وحملوني على غير أخلاقي ، فأبدلهم بي شرا مني ، وأبدلني بهم خيرا منهم ، ومث قلوبهم ميثة الملح في الماء .

مجالد : عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي ، قال : لا تكرهوا إمرة معاوية ، فلو قد فقدتموه لرأيتم الرءوس تندر عن كواهلها .

لما قتل أمير المؤمنين علي ; بايع أهل العراق ابنه الحسن ، وتجهزوا لقصد الشام في كتائب أمثال الجبال ، وكان الحسن سيدا كبير القدر يرى حقن الدماء ، ويكره الفتن ، ورأى من العراقيين ما يكره .

قال جرير بن حازم : بايع أهل الكوفة الحسن بعد أبيه وأحبوه أكثر من أبيه .

وقال ابن شوذب : سار الحسن يطلب الشام ، وأقبل معاوية في أهل الشام ، فالتقوا ، فكره الحسن القتال ، وبايع معاوية على أن جعل له العهد بالخلافة من بعده ، فكان أصحاب الحسن يقولون له : يا عار المؤمنين ، فيقول : العار خير من النار .

وعن عوانة بن الحكم ، قال : سار الحسن حتى نزل المدائن ، وبعث على المقدمة قيس بن سعد في اثني عشر ألفا ، فبينا الحسن بالمدائن إذ صاح صائح ، ألا إن قيسا قد قتل . فاختبط الناس ، وانتهب الغوغاء سرادق الحسن ، حتى نازعوه بساطا تحته ، وطعنه خارجي من بني أسد بخنجر ، فقتلوا الخارجي ، فنزل الحسن القصر الأبيض ، وكاتب معاوية في الصلح .

وروى نحوا من هذا الشعبي وأبو إسحاق . وتوجع من تلك الضربة أشهرا ، وعوفي .

قال هلال بن خباب : قال الحسن بن علي : يا أهل الكوفة ! لو لم تذهل نفسي عليكم إلا لثلاث لذهلت ; لقتلكم أبي ، وطعنكم في فخذي ، وانتهابكم ثقلي .

قال النبي -صلى الله عليه وسلم- الحسن : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ثم إن معاوية أجاب إلى الصلح ، وسر بذلك ، ودخل هو والحسن الكوفة راكبين ، وتسلم معاوية الخلافة في آخر ربيع الآخر ، وسمي عام الجماعة لاجتماعهم على إمام ، وهو عام أحد وأربعين .

وقال ابن إسحاق : بويع معاوية بالخلافة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين لما دخل الكوفة .

وقال أبو معشر : بايعه الحسن بأذرح في جمادى الأولى ، وهو عام الجماعة .

قال المدائني : أقبل معاوية إلى العراق في ستين ألفا ، واستخلف على الشام الضحاك بن قيس ، فلما بلغ الحسن أن معاوية عبر جسر منبج ، عقد لقيس بن سعد على اثني عشر ألفا فسار إلى مسكن وأقبل معاوية إلى الأخنونية في عشرة أيام معه القصاص يعظون ، ويحضون أهل الشام . فنزلوا بإزاء عسكر قيس ، وقدم بسر بن أبي أرطاة إليهم ، فكان بينهم مناوشة ، ثم تحاجزوا .

قال الزهري : عمل معاوية عامين ما يخرم عمل عمر ثم إنه بعد .

الأعمش : عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن سويد ، قال : صلى بنا معاوية في النخيلة الجمعة في الضحى ، ثم خطب وقال : ما قاتلنا لتصوموا ، ولا لتصلوا ، ولا لتحجوا ، أو تزكوا ، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك ، ولكن إنما قاتلناكم لأتأمر عليكم ، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون .

السري بن إسماعيل ، عن الشعبي ; حدثني سفيان بن الليل ، قلت للحسن لما رجع إلى المدينة من الكوفة : يا مذل المؤمنين : قال : لا تقل ذلك ; فإني سمعت أبي يقول : لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك معاوية ، فعلمت أن أمر الله واقع ، فكرهت القتال .

السري تالف .

شعيب : عن الزهري ، عن القاسم بن محمد ; أن معاوية لما قدم المدينة حاجا ، دخل على عائشة ، فلم يشهد كلامهما إلا ذكوان مولاها ، فقالت له : أمنت أن أخبأ لك رجلا يقتلك بأخي محمد . قال : صدقت . ثم وعظته ، وحضته على الاتباع ، فلما خرج ، اتكأ على ذكوان ، وقال : والله ما سمعت خطيبا -ليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبلغ من عائشة .

محمد بن سعد : حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان بن بلال ، حدثني علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه قالت : قدم معاوية ، فأرسل إلى عائشة أن أرسلي إلي بأنبجانية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشعره ، فأرسلت به معي أحمله ، حتى دخلت عليه ، فأخذ الأنبجانية ، فلبسها ، ودعا بماء فغسل الشعر ، فشربه ، وأفاض على جلده .

أبو بكر الهذلي : عن الشعبي ، قال : لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة ، تلقته قريش ، فقالوا : الحمد لله الذي أعز نصرك وأعلى أمرك ، فسكت حتى دخل المدينة ، وعلا المنبر ، فحمد الله ، وقال : أما بعد ، فإني والله وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها ، وإني لعالم بما في نفوسكم ، ولكن خالستكم بسيفي هذا مخالسة ، ولقد أردت نفسي على عمل أبي بكر وعمر ، فلم أجدها تقوم بذلك ، ووجدتها عن عمل عمر أشد نفورا ، وحاولتها على مثل سنيات عثمان ، فأبت علي ، وأين مثل هؤلاء ; هيهات أن يدرك فضلهم ، غير أني سلكت طريقا لي فيه منفعة ، ولكم فيه مثل ذلك ، ولكل فيه مواكلة حسنة ومشاربة جميلة ما استقامت السيرة ، فإن لم تجدوني خيركم ، فأنا خير لكم ، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه ، ومهما تقدم مما قد علمتموه ، فقد جعلته دبر أذني ، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله ، فارضوا ببعضه ، فإنها ليست بقائبة قوبها ، وإن السيل إن جاء تترى -وإن قل- أغنى ، إياكم والفتنة ، فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة ، وتكدر النعمة ، وتورث الاستئصال ، وأستغفر الله لي ولكم . ثم نزل .

"القائبة" : البيضة ، "والقوب" : الفرخ ، يقال : قابت البيضة : إذا انفلقت عن الفرخ .

محمد بن بشر العبدي : حدثنا مجالد ، عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد مرفوعا : إذا رأيتم فلانا يخطب على منبري ، فاقتلوه .

رواه جندل بن والق عن محمد بن بشر ، فقال بدل "فلانا" : معاوية . وتابعه الوليد بن القاسم ، عن مجالد .

وقال حماد وجماعة : عن علي بن زيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد مرفوعا : إذا رأيتم معاوية على منبري ، فاقتلوه . .

الحكم بن ظهير -واه - عن عاصم ، عن زر عن عبد الله مرفوعا نحوه .

وجاء عن الحسن مرسلا .

وروي بإسناد مظلم ، عن جابر مرفوعا : إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري ، فاقبلوه ، فإنه أمين مأمون . .

هذا كذب . ويقال : هو معاوية بن تابوه المنافق .

قال سعيد بن عبد العزيز : لما قتل عثمان ، ووقع الاختلاف ، لم يكن للناس غزو حتى اجتمعوا على معاوية ، فأغزاهم مرات . ثم أغزى ابنه في جماعة من الصحابة برا وبحرا حتى أجاز بهم الخليج ، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها ، ثم قفل .

الليث عن بكير ، عن بسر بن سعيد ، أن سعد بن أبي وقاص قال : ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب ، يعني معاوية .

أبو بكر بن أبي مريم : عن ثابت مولى سفيان : سمعت معاوية ، وهو يقول : إني لست بخيركم ، وإن فيكم من هو خير مني : ابن عمر ، وعبد الله بن عمرو وغيرهما . ولكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم ، وأنعمكم لكم ولاية ، وأحسنكم خلقا .

عقيل ، ومعمر ، عن الزهري ، حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية ، فقضى حاجته ، ثم خلا به ، فقال : يا مسور ! ما فعل طعنك على الأئمة ؟ قال : دعنا من هذا وأحسن . قال : لا والله ، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب علي . قال مسور : فلم أترك شيئا أعيبه عليه إلا بينت له . فقال : لا أبرأ من الذنب . فهل تعد لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة ، فإن الحسنة بعشر أمثالها ، أم تعد الذنوب ، وتترك الإحسان ؟ قال : ما تذكر إلا الذنوب . قال معاوية : فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه ، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تغفر ؟ قال : نعم . قال : فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني ، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي ، ولكن والله لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره ، إلا اخترت الله على ما سواه ، وأني لعلى دين يقبل فيه العمل ويجزى فيه بالحسنات ، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها . قال : فخصمني . قال عروة : فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه .

عمرو بن واقد : حدثنا يونس بن ميسرة : سمعت معاوية يقول على منبر دمشق : تصدقوا ولا يقل أحدكم : إني مقل ، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني .

الشافعي : أنبأنا عبد المجيد ، عن ابن جريج ، أخبرني عتبة بن محمد ، أخبرني كريب مولى ابن عباس : أنه رأى معاوية صلى العشاء ، ثم أوتر بركعة واحدة لم يزد ، فأخبر ابن عباس ، فقال : أصاب . أي بني ! ليس أحد منا أعلم من معاوية . هي واحدة أو خمس أو سبع أو أكثر .

أبو اليمان : حدثنا ابن أبي مريم ، عن عطية بن قيس ، قال : خطبنا معاوية ، فقال : إن في بيت مالكم فضلا عن عطائكم ، وأنا قاسمه بينكم .

هشام بن عمار : حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس ، قال : رأيت معاوية في سوق دمشق على بغلة ، خلفه وصيف قد أردفه ، عليه قميص مرقوع الجيب .

قال أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، قال : كان معاوية ، وما رأينا بعده مثله .

ابن عيينة : حدثنا ابن أبي خالد ، عن الشعبي ; سمعت معاوية يقول : لو أن عليا لم يفعل ما فعل ، ثم كان في غار ، لذهب الناس إليه حتى يستخرجوه منه .

العوام بن حوشب : عن جبلة بن سحيم ، عن ابن عمر ، قال : ما رأيت أحدا أسود من معاوية ، قلت : ولا عمر ؟ قال : كان عمر خيرا منه ، وكان معاوية أسود منه .

وروي عن أبي يعقوب ، عن ابن عمر نحوه .

وروى ابن إسحاق ، عن نافع : عن ابن عمر مثله ، ولفظه : ما رأيت أحدا قط بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أسود من معاوية . فقلت : كان أسود من أبي بكر ؟ فقال : كان أبو بكر خيرا منه ، وهو كان أسود . قلت : كان أسود من عمر ؟ . . . الحديث .

معمر : عن همام بن منبه ، سمعت ابن عباس يقول : ما رأيت رجلا كان أخلق للملك من معاوية ، كان الناس يردون منه على أرجاء واد رحب ، لم يكن بالضيق الحصر العصعص المتغضب . يعني ابن الزبير .

أيوب : عن أبي قلابة ; قال كعب بن مالك : لن يملك أحد هذه الأمة ما ملك معاوية .

مجالد : عن الشعبي ، عن قبيصة بن جابر ; قال : صحبت معاوية ، فما رأيت رجلا أثقل حلما ، ولا أبطأ جهلا ، ولا أبعد أناة منه .

ويروى عن معاوية قال : إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أوزن من حلمي .

مجالد : عن الشعبي ، قال : أغلظ رجل لمعاوية ، فقال : أنهاك عن السلطان ، فإن غضبه غضب الصبي ، وأخذه أخذ الأسد .

الأصمعي : حدثنا ابن عون قال : كان الرجل يقول لمعاوية : والله لتستقيمن بنا يا معاوية ، أو لنقومنك ، فيقول : بماذا ؟ فيقولون : بالخشب ، فيقول : إذا أستقيم .

عن ابن عباس ، قال : علمت بما كان معاوية يغلب الناس ; كان إذا طاروا وقع ، وإذا وقعوا طار .

مجالد : عن الشعبي ، عن زياد بن أبيه ، قال : ما غلبني معاوية في شيء إلا بابا واحدا ; استعملت فلانا ، فكسر الخراج . فخشي أن أعاقبه ، ففر مني إلى معاوية . فكتبت إليه : إن هذا أدب سوء لمن قبلي . فكتب إلي : إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة ; أن نلين جميعا فيمرح الناس في المعصية ، ولا نشتد جميعا ، فنحمل الناس على المهالك ، ولكن تكون للشدة والفظاظة ، وأكون أنا للين والألفة .

أبو مسهر : عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : قضى معاوية عن عائشة ثمانية عشر ألف دينار .

وقال عروة : بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف ، فوالله ما أمست حتى فرقتها .

حسين بن واقد : عن ابن بريدة ، دخل الحسن بن علي على معاوية ، فقال : لأجيزنك بجائزة لم يجزها أحد كان قبلي ، فأعطاه أربع مائة ألف .

جرير : عن مغيرة ، قال : بعث الحسن وابن جعفر إلى معاوية يسألانه . فأعطى كلا منهما مائة ألف ، فبلغ ذلك عليا ، فقال لهما : ألا تستحيان ؟ رجل نطعن في عيبه غدوة وعشية تسألانه المال ! ؟ قالا : لأنك حرمتنا وجاد هو لنا .

أبو هلال ، عن قتادة ، قال معاوية : واعجبا للحسن ! شرب شربة من عسل بماء رومة ، فقضى نحبه . ثم قال لابن عباس : لا يسوؤك الله ولا يحزنك في الحسن . قال : أما ما أبقى الله لي أميرالمؤمنين فلن يسوءني الله ولن يحزنني . قال : فأعطاه ألف ألف من بين عروض وعين . قال : اقسمه في أهلك .

روى العتبي قال : قيل لمعاوية : أسرع إليك الشيب ، قال : كيف لا ; ولا أعدم رجلا من العرب قائما على رأسي يلقح لي كلاما يلزمني جوابه ، فإن أصبت لم أحمد ، وإن أخطأت سارت به البرد .

قال مالك : إن معاوية قال : لقد نتفت الشيب مدة . قال : وكان يخرج إلى مصلاه ، ورداؤه يحمل من الكبر . ودخل عليه إنسان ، وهو يبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ قال : هذا الذي كنتم تمنون لي .

محمد بن الحسن بن أبي يزيد عن مجالد ، عن الشعبي ، قال : لما أصاب معاوية اللقوة بكى ، فقال له مروان : ما يبكيك ؟ قال : راجعت ما كنت عنه عزوفا ، كبرت سني ، ورق عظمي ، وكثر دمعي ، ورميت في أحسني وما يبدو مني ، ولولا هواي في يزيد ، لأبصرت قصدي .

هشام بن عمار : حدثنا عبد المؤمن بن مهلهل ، حدثني رجل قال : حج معاوية ، فاطلع في بئر عادية بالأبواء ، فضربته اللقوة فدخل داره بمكة ، وأرخى حجابه ، واعتم بعمامة سوداء على شقه الذي لم يصب ، ثم أذن للناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ! إن ابن آدم بعرض بلاء ; إما مبتلى ليؤجر ; أو معاقب بذنب ، وإما مستعتب ليعتب ، وما أعتذر من واحدة من ثلاث ، فإن ابتليت ، فقد ابتلي الصالحون قبلي ، وإن عوقبت ، فقد عوقب الخاطئون قبلي ، وما آمن أن أكون منهم ، وإن مرض عضو مني ، فما أحصي صحيحي . ولو كان الأمر إلى نفسي ، ما كان لي على ربي أكثر مما أعطاني ، فأنا ابن بضع وستين ، فرحم الله من دعا لي بالعافية ، فوالله لئن عتب علي بعض خاصتكم ، لقد كنت حدبا على عامتكم ، فعج الناس يدعون له ، وبكى .

مغيرة : عن الشعبي ، قال : أول من خطب جالسا معاوية حين سمن .

أبو المليح : عن ميمون بن مهران ، قال : أول من جلس على المنبر ، واستأذن الناس معاوية ; فأذنوا له .

وعن عبادة بن نسي : خطبنا معاوية بالصنبرة فقال : لقد شهد معي صفين ثلاث مائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بقي منهم غيري .

إسناده لين .

يوسف بن عبدة ; سمعت ابن سيرين يقول : أخذت معاوية قرة فاتخذ لحفا خفافا تلقى عليه ، فلم يلبث أن يتأذى بها . فإذا رفعت ، سأل أن ترد عليه ، فقال : قبحك الله من دار ، مكثت فيك عشرين سنة أميرا ، وعشرين سنة خليفة ، وصرت إلى ما أرى .

قال الزبير بن بكار : كان معاوية أول من اتخذ الديوان للختم ، وأمر بالنيروز والمهرجان ، واتخذ المقاصير في الجامع ، وأول من قتل مسلما صبرا وأول من قام على رأسه حرس ، وأول من قيدت بين يديه الجنائب ، وأول من اتخذ الخدام الخصيان في الإسلام ، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مرقاة ، وكان يقول : أنا أول الملوك .

قلت : نعم . فقد روى سفينة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : الخلافة بعدي ثلاثون سنة . ثم تكون ملكا فانقضت خلافة النبوة ثلاثين عاما ، وولي معاوية ، فبالغ في التجمل والهيئة ، وقل أن بلغ سلطان إلى رتبته ، وليته لم يعهد بالأمر إلى ابنه يزيد ، وترك الأمة من اختياره لهم .

علي بن عاصم : عن ابن جريج ، عن الحسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : لما احتضر معاوية ، قال : إني كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الصفا ، وإني دعوت بمشقص ، فأخذت من شعره ، وهو في موضع كذا وكذا ، فإذا أنا مت ، فخذوا ذلك الشعر ، فاحشوا به فمي ومنخري .

وروي بإسناد عن ميمون بن مهران نحوه .

محمد بن مصفى : حدثنا بقية عن بحير ، عن خالد بن معدان ، قال : وفد المقدام بن معدي كرب ، وعمرو بن الأسود ، ورجل من الأسد له صحبة إلى معاوية . فقال معاوية للمقدام : توفي الحسن ، فاسترجع . فقال : أتراها مصيبة ؟ قال : ولم لا ؟ وقد وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجره وقال : هذا مني ، وحسين من علي . فقال للأسدي : ما تقول أنت ؟ قال : جمرة أطفئت . فقال المقدام : أنشدك الله ! هل سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن لبس الذهب والحرير ، وعن جلود السباع والركوب عليها ؟ قال : نعم . قال : فوالله لقد رأيت هذا كله في بيتك . فقال معاوية : عرفت أني لا أنجو منك .

إسناده قوي .

ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم ، وما هو ببريء من الهنات ، والله يعفو عنه .

المدائني : عن أبي عبيد الله ، عن ، عبادة بن نسي ، قال : خطب معاوية ، فقال : إني من زرع قد استحصد ، وقد طالت إمرتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني ، ولا يأتيكم بعدي خير مني ، كما أن من كان قبلي خير مني . اللهم قد أحببت لقاءك فأحب لقائي .

الواقدي : حدثنا ابن أبي سبرة ، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى ، قال : قال معاوية ليزيد وهو يوصيه : اتق الله ، فقد وطأت لك الأمر ، ووليت من ذلك ما وليت ، فإن يك خيرا فأنا أسعد به ، وإن كان غير ذلك شقيت به . فارفق بالناس ، وإياك وجبه أهل الشرف والتكبر عليهم .

وقيل : إن معاوية قال ليزيد : إن أخوف ما أخافه شيء عملته في أمرك ، شهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما قلم أظفاره ، وأخذ من شعره ، فجمعت ذلك ، فإذا مت ، فاحش به فمي وأنفي .

عبد الأعلى بن ميمون بن مهران : عن أبيه ; أن معاوية أوصى فقال : كنت أوضئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزع قميصه وكسانيه ، فرفعته ، وخبأت قلامة أظفاره ، فإذا مت ، فألبسوني القميص على جلدي ، واجعلوا القلامة مسحوقة في عيني ، فعسى الله أن يرحمني ببركتها .

حميد بن هلال ، عن أبي بردة ; قال : دخلت على معاوية حين أصابته قرحته ، فقال : هلم يا ابن أخي فانظر ; فنظرت ، فإذا هي قد سرت .

قال أبو عمرو بن العلاء : لما احتضر معاوية ، قيل له : ألا توصي ؟ فقال : اللهم أقل العثرة ، واعف عن الزلة ، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك ، فما وراءك مذهب . وقال : هو الموت لا منجى من الموت والذي

نحـاذر بعـد المـوت أدهـى وأفظـع

قال أبو مسهر : صلى الضحاك بن قيس الفهري على معاوية ، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير فيما بلغني .

قال أبو عبيدة : عن أبي يعقوب الثقفي ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : لما ثقل معاوية ، قال : احشوا عيني بالإثمد ، وأوسعوا رأسي دهنا ، ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن ثم مهد له وأجلس وسند ، ثم قال : ليدن الناس ، فليسلموا قياما ، فيدخل الرجل ، ويقول : يقولون : هو لما به ، وهو أصح الناس ، فلما خرجوا ، قال معاوية : وتجــلدي للشـامتين أريهـم

أنـي لريب الدهر لا أتضعضع وإذا المـنية أنشـبت أظفارهـا

ألفيـت كـل تميمـة لا تنفع

إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ، قال : أخرج معاوية يديه كأنهما عسيبا نخل ، فقال : هل الدنيا إلا ما ذقنا وجربنا . والله لوددت أني لم أغبر فيكم إلا ثلاثا ، ثم ألحق بالله . قالوا : إلى مغفرة الله ورضوانه . قال : إلى ما شاء الله . قد علم الله أني لم آل ، ولو أراد الله أن يغير غير .

وعن عمرو بن ميمون ، قال : مات معاوية وابنه يزيد بحوارين .

أبو مسهر : حدثنا خالد بن يزيد ، حدثني سعيد بن حريث ، قال : مات معاوية ، ففزع الناس إلى المسجد ، فأتيت . فلما ارتفع النهار وهم يبكون في الخضراء ، وابنه يزيد في البرية وهو ولي عهده ، وكان مع أخواله بني كلب . فقدم في زيهم ، فتلقيناه ، وهو على بختي له زجل . قال : وليس عليه عمامة ولا سيف . وكان عظيم الجسم سمينا ، فسار إلى باب الصغير ، فنزل ، ومشى بين يديه الضحاك الفهري إلى قبر معاوية ، فصفنا خلفه ، وكبر أربعا ، ثم ركب بغلته إلى الخضراء ثم نودي وقت الظهر : الصلاة جامعة ، فاغتسل ، وخرج ، فجلس على المنبر ، وعجل العطاء ، وأعفاهم من غزو البحر ، فافترقوا وما يفضلون عليه أحدا .

قال الليث وأبو معشر وعدة : مات معاوية في رجب سنة ستين فقيل : في نصف رجب وقيل : لثمان بقين منه وعاش سبعا وسبعين سنة .

مسنده في "مسند بقي" ; مائة وثلاثة وستون حديثا . وقد عمل الأهوازي مسنده في مجلد . واتفق له البخاري ومسلم على أربعة أحاديث ، وانفرد البخاري بأربعة ، ومسلم بخمسة .

عبد الرحمن الداخل

أبو المطرف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام الأموي (113 هـ/731 م-172 هـ/788 م) المعروف بلقب صقر قريش وعبد الرحمن الداخل، والمعروف أيضًا في المصادر الأجنبية بلقب عبد الرحمن الأول. أسس عبد الرحمن الدولة الأموية في الأندلس عام 138 هـ، بعد أن فر من الشام إلى الأندلس في رحلة طويلة استمرت ست سنوات، بعد سقوط الدولة الأموية في دمشق عام 132 هـ، وتتبع العباسيون لأمراء بني أمية وتقتيلهم.
دخل الأندلس وهي تتأجج بالنزاعات القبلية والتمردات على الولاة، فقضى عبد الرحمن في فترة حكمه التي استمرت 33 عامًا، في إخضاع الثورات المتكررة على حكمه في شتى أرجاء الأندلس، تاركًا لخلفائه إمارة استمرت لنحو ثلاثة قرون.

نسبه ونشأته[عدل]

نسبه هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميةبن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. كنيته: أبو المطرف[2] وقيل أبا زيد وقيل أبا سليمان،[3] وكانت أمه سبية بربرية من قبيلة نفزة اسمها راح[4] أو رداح.[1]
ولد سنة 113 هـ/731 م في خلافة جده هشام بن عبد الملك،[2] في بلاد الشام عند قرية تعرف بدير حنا، وقيل ولد بالعليا من أعمال تدمر.[5] توفي أبوه شاباً عام 118 هـ[6] في خلافة أبيه هشام بن عبد الملك، فنشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي بدمشق حيث كفله وإخوته جده هشام. وكان جده يؤثره على بقية إخوته ويتعهده بالصلات والعطايا في كل شهر حتى وفاته.
ويروى أن عم أبيه الفارس مسلمة بن عبد الملك والذى كان له باعاً طويلاً في علم الحدثان قد وصلته نبوءة تقول بأن عدواً سيأتى من الشرق ويقضي على الحكم الأموي ، إلا أن فتاً أموياً سوف يتمكن من إقامته من جديد في بلاد الأندلس٬ وعندما نظر مسلمة إلى عبد الرحمن لأول مرة في رصافة هشام بعد وفاة أبيه رأى في وجهه العلامات التى تدل على أنه الأموى المقصود. [7]
وعندما أقام العباسيون دولتهم على أنقاض الدولة الأموية، هدفوا إلى تعقب الأمويين والقضاء عليهم خشية أن يحاولوا استرداد ملكهم، فقتلوا بعضهم مما جعل الباقين منهم يستترون. حينئذ، أظهر العباسيون الندم على ما كان منهم، وأشاعوا أنهم أمّنوا من بقي من الأمويين حتى اجتمع منهم بضع وسبعون رجلاً منهم أخ لعبد الرحمن يدعى يحيى، فأفنوهم.[8][9]وحين بلغ عبد الرحمن بن معاوية ذلك، هرب من منزله بدير حنا من أعمال قنسرين،[10] وأوصى بأن يتبع بولده سليمان وأختيه أم الأصبغ وأمة الرحمن. حتى بلغ قرية على الفرات، اختبأ بها. وذات يوم، اشتكى فيه عبد الرحمن الرمد، فلزم ظلمة داره، وإذا بابنه سليمان وهو ابن أربع سنين يدخل عليه فزعًا باكيًا، فتوجس عبد الرحمن وإذا برايات العباسيين في القرية، ودخل عليه أخ له صغير يخبره الخبر. فعمد عبد الرحمن إلى دنانير تناولها، ثم أعلم أختيه بمتوجهه، وفر هو وأخيه. بعدئذ، وشى به عبد من عبيده، تعقبته فرسان العباسيين، فلم يجدا أمامهما مهربًا إلا عبور النهر. وإذ هما في نصف النهر، أغرتهما الشرطة أن يرجعا ولهما الأمان، فرجع أخوه خشية الغرق، وغرر به وقتله العباسيون، وكان عمر أخيه ثلاث عشرة سنة، بينما نجح عبد الرحمن بالوصول إلى الضفة الأخرى.[11][12] ثم ألحقت به أخته أم الأصبغ مولاه بدر ومولاها سالمًا بمال وشيء من الجواهر، فتوجه عبد الرحمن بالموليين صوب إفريقية.[13]

فراره إلى المغرب[عدل]

استغل عبد الرحمن بن حبيب الفهري والي إفريقية سقوط الدولة الأموية ليستقل بحكم إفريقية. خشي الفهري ظهور الأمويين الفارّين من المشرق على ولايته، فتتبعهم بالقتل، فقَتَل منهم ابنين للوليد بن يزيد.[14] لذا، ظل عبد الرحمن يتنقل من مكان إلى مكان خمس سنين، بدءًا من نزوله على أخواله بني نفزة، وهم من بربر طرابلس، ثم على نزل على مكناسة وقيل مغيلة، حيث آواه أبو قرّة وانسوس المغيلي، لحمايته من متعقبيه.[5][15] ثم منها إلى قوم من زناتة منازلهم قرب البحر في سبتة.[13][16]
وفي عام 136 هـ، أرسل مولاه بدرًا إلى موالي بني أمية في الأندلس يطلب عضضهم والتمهيد لدخوله الأندلس.[17] فعرض بدر رسالة عبد الرحمن على أبي عثمان عبيد الله بن عثمان وعبد الله بن خالد وأبي الحجاج يوسف بن بخت زعماء موالي بني أمية في الأندلس، فأجابوه. وعرضوا الأمر على الصميل بن حاتم وكان من زعماء المضرية، غير أن الصميل خشي علي نفوذه من مجيء عبد الرحمن، فاستقر على ألا يجيبه.[18] كان الأندلس حينئذ يغلي بسبب النزاعات المتواصلة بين القبائلالمضرية واليمانية،[19] فوافقت دعوة عبد الرحمن رغبة اليمانية المدفوعين بالرغبة في الثأر لهزيمتهم أمام الفهرية والقيسية في موقعة شقندة،[20] فاحتشدوا لنصرة لعبد الرحمن. ثم أرسل زعماء الموالي مركبًا تعبر به إلى الأندلس، فوصل إلى ثغر المنكب في ربيع الثاني سنة 138 هـ.[21]

دخوله الأندلس[عدل]

بعد أن دخل عبد الرحمن الأندلس أتاه أبو عثمان وعبد الله بن خالد، وسارا به إلى حصن طرش منزل أبي عثمان[21] التي أصبحت مركزًا لتجمع أنصاره. بلغ الخبر يوسف الفهري بوصول عبد الرحمن وتجمع الناس حوله، وعدم قدره عامله على إلبيرة على تفريقهم.[22] فنصح الصميل يوسف بوجوب التوجه فورًا لملاقاة عبد الرحمن،[23] فجمع يوسف جيشه. علم عبد الرحمن بمسير جيش يوسف، فتحرك بجيشه وأخضع كافة المدن في طريقه حتى إشبيلية التي استولى عليها وبايعه أهلها، فتجمع له ثلاثة آلاف مقاتل.[24] ثم حاول مباغتة يوسف الفهري، ومهاجمة قرطبة ليستولي عليها،[7] والتقيا في موضع يبعد عن قرطبة نحو 45 ميلاً لا يفصلهما إلاالنهر. حاول يوسف أن يغري عبد الرحمن لينصرف بجنده، بأن وعده بالمال وبأن يزوجه من إحدى بناته. إلا أن عبد الرحمن رفض، وأسر خالد بن يزيد أحد رسل يوسف، لإغلاظه له القول.[25] وفي الليل، حاول عبد الرحمن أن يسبق بجنده جيش يوسف خلسة إلى قرطبة. علم بذاك يوسف فسار الجيشان بمحاذاة النهر صوب قرطبة، إلى أن انحسر الماء عند المصارة يوم الأضحى العاشر من ذي الحجة لعام 138 هـ، فعبر جيش عبد الرحمن ودارت المعركة التي انتهت بنصر عبد الرحمن.[26] خلال المعركة أشيع بين الجنود أن عبد الرحمن يركب جوادًا سريعًا للفرار به وقت الهزيمة. فلما بلغ عبد الرحمن هذا الكلام ترك فرسه في الحال وقال: "إن فرسي قلق لا يتمكن معه الرمي!"، ثم ركب بغلاً ضعيفًا كي يقنع جنوده بأنه لن يولي ظهره للأعداء.[27] بعد انتصاره، دخل عبد الرحمن إلى قرطبة، وأدى الصلاة في مسجدها الجامع حيث بايعه أهلها على الطاعة.[28]

توطيد الإمارة[عدل]

بعد هزيمة يوسف الفهري والصميل وفرارهما من موقعة المصارة، توجه يوسف إلى طليطلة وحشد منها ما استطاع من أنصاره بمساعدة عامله عليها هشام بن عروة الفهري، وتوجه الصميل إلى جيان وجمع فيها أنصاره ومؤيديه. ثم اجتمعت القوتان وتوجهتا إلى إلبيرة. وكانت خطتهما أن يجذبا عبد الرحمن من قرطبة إلى جيان لقتالهما، ثم يذهب عبد الرحمن بن يوسف الفهري ليحتل قصر الإمارة في قرطبة. وبالفعل عندما علم عبد الرحمن الداخل بإجتماعهما توجه إليهما سنة 139 هـ، بعد أن ترك قوة صغيرة لحماية قرطبة بقيادة أبي عثمان. لكنه ما أن ابتعد قليلاً حتى هاجم عبد الرحمن بن يوسف الفهري قرطبة واحتل قصر الإمارة، وأسر أبا عثمان وكبله بالأغلال. وعندما علم عبد الرحمن الداخل بما حل بقرطبة عاد مسرعًا إلى قرطبة، ففر ابن يوسف الفهري إلى أبيه في إلبيرة ومعه أبو عثمان. عندئذ، غادر عبد الرحمن الداخل قرطبة، وتوجه إلى الصميل ويوسف في إلبيرة وحاصرهما، فطلبا الصلح على أن يعترفا بإمارته، ولا ينازعاه فيها، وأن يؤمنهما على النفس والمال والأهل، وأن يؤمن حلفاءهما وأعوانهما ويسمح لهما بسكنى قرطبة تحت رعايته ورقابته. وقد قبل عبد الرحمن على أن يقدم يوسف ولديه عبد الرحمن وأبي الأسود محمد رهينتين عنده يعتقلهما في قصر قرطبة كضمان للوفاء بعهده، وأن يفرج عبد الرحمن الداخل عن خالد بن زيد أحد قادة يوسف الفهري في مقابل أن يفرج يوسف عن أبي عثمان. وتم الصلح بين الفريقين عام 140 هـ. وقفل يوسف والصميل مع عبد الرحمن الداخل إلى قرطبة وأنفض جندهما، ونزل يوسف بشرقي قرطبة في قصر الحر الثقفي،[29] ونزل الصميل بداره بالربض وعمل عبد الرحمن علي إكرامهما وتقدير مكانتهما.
ولم يمض عام حتى حاول أنصار يوسف السابقين حمله على الثورة على عبد الرحمن، فكاتب يوسف أهل ماردة ولقنت، فأجابوه وكتبوا إليه، فهرب إليهم سنة 141 هـ. ولما علم عبد الرحمن بهربه أتبعه الخيل وقبض على ابنه واعتقل الصميل تحسبًا لأي خطر قد يشارك فيه الصميل. تقدم يوسف نحو إشبيلية وحاصرها وكان واليها عبد الملك بن عمر المرواني الذي طلب من ابنه والي مورور نجدته. ففك يوسف الحصار ليتوجه إلى عبد الرحمن الداخل. لكن عبد الملك وابنه زحفا خلف يوسف الذي رأي التخلص منهما أولاً، ودارت بينهما معركة، انهزم فيها يوسف، وتفرق من معه.[30] وفر يوسف إلى طليطلة ليحتمي بها عند هشام بن عروة الفهري والي طليطلة، فأدركه عبد الله بن عمر الأنصاري قبل طليطلة بأربعة أميال فقتله، وبعث برأسه إلى عبد الرحمن الداخل. ثم أمر عبد الرحمن الداخل بقتل عبد الرحمن بن يوسف المعتقل لديه، كما خنق الصميل في سجنه، وقتل جميع أنصار يوسف الفهري.[31]

الثورات[عدل]

وفي أواخر عام 143 هـ، ثار القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري وحليف أبيه رزق بن النعمان الغساني في الجزيرة الخضراء على الأمير عبد الرحمن، الذي وجه إليهما من هزمهما،[32] وفر القاسم وقتل الغساني.[33] ثم ثار هشام بن عروة الفهري صاحب طليطلة، فسار إليه عبد الرحمن وشدد عليه الحصار حتى إضطر إلي طلب الصلح مقابل أخذ ابنه كرهينه عند عبد الرحمن. فقبل عبد الرحمن ذلك. ثم عاد هشام إلي نقض العهد. فغزاه الداخل في العام التالي، وشدد الحصار عليه ودعاه إلي الرجوع فلم يستجيب له. فلما يئس الأمير منه أمر بضرب عنق ابن هشام، وقذف الرأس بالمنجنيق في المدينة، ثم تركه[34] لانشغاله بثورة العلاء بن مغيث اليحصبي الذي ثار عام 146 هـ في باجة[35] بعد أن راسل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي كان يطمع في استعادة الأندلس،[7] واستطاع أن يجمع حوله الناس والجند من أنصار الدولة العباسية، فاستولى على شذونة. فأرسل له الداخل جيشًا بقيادة مولاه بدر، فسيطر على المدينة، فتحرك العلاء بجيشه إلى إشبيلية ودخلها. فخرج عبد الرحمن من قرطبة في جميع قواته إلى قرمونة وتحصن بها ومعه ثقاة مواليه وخاصته، فسار إليه العلاء وحاصره العلاء بها شهرين، عندئذ خرج عبد الرحمن في 700 من رجاله ليرد الهجوم بعد أن خارت قوى جيش العلاء، فهزمهم وقتل العلاء. أمر عبد الرحمن بحز رأس العلاء ورؤوس أشراف أصحابه، ووضعت فيها صكوك بأسمائهم وحملوا بعضهم إلي أسواق القيروان ليلاً،[36] والبعض الآخر وفيهم رأس العلاء إلي مكة مع بعض التجار الثقات ومعه الرسالة واللواء الذي أرسله المنصور إلى العلاءـ فوضعوه أمام سرادق المنصور الذي كان يحج ذلك العام. فلما رأي المنصور رأس العلاء انزعج وقال: «الحمد لله الذي جعل بيننا وبين هذا الشيطان بحرًا».[4]
ثم بعث عبد الرحمن مولاه بدر وتمام بن علقمة عام 147 هـ[37] في جيش كثيف إلي طليطلة، فحاصرا هشام بن عروة الفهري حصارًا شديدًا، ومنعا الطعام عن أهل طليطلة، حتى ضج أهل المدينة من الحصار واستثقلوا الحرب، وكاتبوا تمام وبدر وسألوهما الأمان مقابل تسليم ابن عروة وبعض قادته لهما، فقبلا ذلك وحملوهم إلي قرطبة، فحلقت رؤوسهم ولحاهم وألبسوا جببًا صوفية وحملوا علي الحُمر، ودخلوا قرطبة علي هذا الحال حيث أمر عبد الرحمن بقتلهم، ليعلن بذلك نهاية تمرد ابن عروة الفهري.[38]
وفي عام 149 هـ،[37] ثار على الداخل سعيد اليحصبي في لبلة، وسار إليه عبد الرحمن بنفسه وأخمد ثورته.[39] ومن بعده في نفس العام،[37] ثار أبي الصباح اليحصبيالذي نقم من عبد الرحمن أن عزله عن ولاية إشبيلية، وهو الذي كان له عونًا وجمع له اليمانية يوم المصارة. لجأ الداخل معه إلى الحيلة، فبعث إليه عبد الله بن خالد يُأمنه. فلما دخلا قرطبة، أمر عبد الرحمن بقتل أبي الصباح. منذئذ، لزم عبد الله بن خالد داره حتى مات لمرارة في نفسه من خداع عبد الرحمن له واستعماله في استدراج أبي الصباح.[39]
وفي عام 153 هـ،[40] ثار البربر بزعامة رجل يقال شقيا بن عبد الواحد المكناسي كان معلمًا للصبيان، ثم إدعى بأنه فاطمي، فقتل عامل الأمير على ماردة ثم استولى على قورية. فسار إليه عبد الرحمن، ففر منه الفاطمي إلى الجبال ولم يتمكن منه لسنوات، إلى أن انكشف أمره لأصحابه فقتلوه. عندئذ، جاءته رسل مولاه بدر بثورة اليمانية بقيادة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي. فسيًر إليهم الداخل جيشًا هزمهم، وقتل حيوة، وفرّ عبد الغافر عبر البحر.[41] تلا ذلك محاولة ابن أخيه عبيد الله بن أبان بن معاوية وبعض معاونيه الانقلاب عليه في قرطبة وهو متنزهًا خارجها، فراسله مولاه بدر بالخبر وتمكن بدر من القبض عليهم، وأمر عبد الرحمن بضرب أعناقهم.[42] ثم وجه الداخل عام 160 هـ[40] قوة بقيادة تمام بن علقمة وأبي عثمان لقتال الفاطمي، واقتتلا وهزمهما الفاطمي، إلا أن رجلين من أصحابه تآمرا عليه وقتلاه بعد ذلك، لتنتهي ثورته.[43]
في عام 161 هـ، نزل عبد الرحمن بن حبيب الصقلبي بجيشه ساحل تدمير، فسارع الداخل بمهاجمة ابن حبيب، فاستغاث ابن حبيب بوالي برشلونة سليمان الأعرابي، ولكن هذا الأخير لم ينجده. وبذلك استطاع عبد الرحمن أن يهزم ابن حبيب ويحرق سفنه عند ساحل تدمير.[44] ففر الصقلبي إلى كورة بلنسية، حيث اغتاله رجل من البربر طمعًا في عطية من الداخل.[45]
شارلمان فشل في غزو شرق الأندلس، ثم تعاهد مع عبد الرحمن الداخل.
وفي عام 164 هـ،[44] ثار عليه الرماحس بن عبد العزيز الكناني والي الجزيرة، فسار إليه عبد الرحمن بنفسه. فلما اقترب جيش عبد الرحمن، آثر الماحس الهرب، ففر بأهله عبر البحر ولجأ إلى أبي جعفر المنصور.[46] وفي عام 168 هـ،[47] بلغ عبد الرحمن الداخل بعد ذلك ائتمار ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية وهذيل بن الصميل بن حاتم به ليخلعوه، فأمر بهم فاعتقلوا، ثم قتلهما،[48] وسخط بسبب ذلك على أخيه الوليد بن معاوية فنفاه هو وبنيه إلى المغرب.[49] ثم ثار عليه أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري عام 169 هـ[47] في قسطلونة، فخرج إليه الداخل وقاتله وهزمه، وقتل أربعة آلاف من أصحاب أبو الأسود الذي فر يومئذ.[48] وفي عام 170 هـ، خرج الداخل لإخماد ثورة بربر نفزة، وهي آخر غزواته.[50]

غزو شارلمان لشرق الأندلس[عدل]

ثار سليمان الأعرابي حاكم برشلونة ومعه الحسين بن يحيى الأنصاري زعيم سرقسطة على الداخل، فأرسل لهم جيشًا بقيادة ثعلبة بن عبيد الجذامي،[51] فهزموا جيش الداخل وأسروا ثعلبة، وأرسلوا إلى شارلمان ملك الفرنجة المعروف في المراجع العربية باسم قارلة، يدعوه للتحالف معهم. فعبر بجيشه جبال البرانس، وأغار على البشكنس في بنبلونة. ثم أنه طمع في سرقسطة، فسار إليها، فاستقبله الأعرابي، إلا أن الحسين بن يحيى وأهل المدينة أبَوّ إلا أن يقاومه، ولم يسلمو له. حاصر شارلمان المدينة، لكنه لم يقدر على فتحها، فرجع إلى بلده وأخذ الأعرابي معه أسيرًا لأنه ورّطه في ذلك الأمر.[52]وفي طريق عودته، دبر ابني سليمان وحلفائهم من البشكنس كمينًا دمروا به مؤخرة جيش شارلمان في معركة باب الشرزي، واستطاعوا تحرير الأعرابي والفرار به،[53] إلا أن الحسين بن يحيى ما لبث أن ترصد للأعرابي وقتله بعد ذلك بفترة قصيرة.[54]
ثم سار الداخل بجيشه إلى سرقسطة عام 165 هـ،[44] فحاصرها وشدد عليها الحصار، فضاق أهلها من الحصار. ففاوض الحسين بن يحيى وهو يومئذ قائدهم، عبد الرحمن الداخل فك الحصار وأن يأخذ ابنه سعيد رهنًا. فقبل الداخل، إلا أن سعيد هرب بعد يوم واحد فقط. فعاد الحسين إلى الثورة، فحاصره جيش الداخل مجددًا، إلى أن ملّ أهل سرقسطة الحصار، وسلموا الحسين إلى الداخل فقتله، وقفل راجعًا إلى قرطبة.[55]

وفاته[عدل]

توفي عبد الرحمن الداخل في 24 ربيع الآخر عام 172 هـ،[1] وترك من الولد أحد عشر ولدًا منهم سليمان وهو أكبر ولده، وهشام والمنذر ويحيى وسعيد وعبد اللهوكليب،[56] ومن البنات تسع. وقد دفن في قصر قرطبة بعد أن صلى عليه ولده عبد الله.[57] وخلفه من بعده ولده هشام الملقب بهشام الرضا بعهد من والده، رغم أن أخاه سليمان كان أسن منه.[58]

أعماله

اتبع عبد الرحمن الداخل سنة أسلافه من الأمويين في نظام الحكم، فاتخذ حُجّابًا، ولم يتخذ وزراء. واحتفظ دومًا بمجموعة من المستشارين، أغلبهم ممن استقبلوه وناصروه في بداية عهده وقاتلوا معه.[59] وقد اهتم بجيشه الذي كان الدعامة التي ساعدته على السيطرة على مقاليد الأمر طوال حكمه، فبلغ جيش عبد الرحمن الداخل مائة ألف جندي من المتطوعين والمرتزقة،[60] لاسترابته من العرب بسبب نزعاتهم المستمرة للثورة.[61] إضافة إلى حرسه الخاص الذي بلغ أربعين ألفًا من الموالي والبربر والرقيق. كما أنشأ في أواخر عهده عددًا من قواعد بناء السفن في طركونة وطرطوشة وقرطاجنة وإشبيلية.[60]
مسجد قرطبة أسسه عبد الرحمن الداخل عام 170 هـ.
بني عبد الرحمن قصر الرصافة في أول حكمه، وسماه الرصافة كرصافة جده هشام بن عبد الملك الذي بناه في الشام،[62] وأحاطه بالحدائق الزاهرة التي جلب لها الغروس والزروع والنوى لم تكن من قبل في الأندلس من الشام وإفريقية.[63] وفي عام 150 هـ، أقام سور قرطبة الكبير، الذي حصّن به قرطبة، واستمر العمل به لأعوام.[58] وفي عام 170 هـ، أسس الأمير عبد الرحمن المسجد الجامع في قرطبة، وأنفق على بناءه 100 ألف دينار[50] وقيل 80 ألف دينار.[64] وكان المسلمون حين افتتحوا قرطبة، قد شاطروا أهلها كنيستهم العظمى، فابتنوا فيه مسجدًا. ولما كثرت عمارة قرطبة، ضاق المسجد على مرتاديه، فابتاع الداخل الشطر الثاني من النصارى بمائة ألف دينار، فأسس عليها الجامع، وتمت أسواره في عام،[2] وأمر ببناءه على طراز المسجد الأموي بدمشق.[65] وقد بلغت مساجد قرطبة في عهده 490 مسجدًا.[66] كما أنشأ دارًا لسك العملة، تضرب فيها النقود بحسب ما كانت تضرب في دمشق في عهد بني أمية وزنًا ونقشًا.[63]
لم تحدث عبد الرحمن الداخل نفسه بالخلافة، حيث كان يرى بأنه لا يستحقها إلا من ملك الحرمين،[67] ولم يقطع الخطبة للخليفة العباسي حتى عام 139 هـ،[68] بعد عشرة أشهر من حكمه، بعد أن أشار عليه قادته بقطعها، بل ألح بعضهم على ذلك، حتى أن عبد الملك بن عمر المرواني هدده بقتل نفسه إن لم يقطعها.[69] أما فيما يتعلق بعلاقاته الخارجية، فبعد أن فشلت حملة شارلمان على شرق الأندلس، وهزيمة جيشه في معركة باب الشرزي. دعاه عبد الرحمن الداخل إلى السلم والمصاهرة، لتوطيد العلاقة بين الدولتين، فأجابه شارلمان إلى السلم، ولم يجبه إلى المصاهرة.[70]
في زمنه دخل الغازي بن قيس الأندلس بموطأ مالك وبقراءة نافع بن أبي نعيم.[71]

صفته وشخصيته

وصفه ابن زيدون فقال «كان أصهب، خفيف العارضين، بوجهه خال، طويل القامة، نحيف الجسم، له ضفيرتين، أعور، أخشم.[4]» وقال عنه ابن حيان القرطبي: «كان كثير الكرم، عظيم السياسة، يلبس البياض ويعتم به، ويعود المرضي، ويشهد الجنائز، ويصلي بالناس في الجمعة والأعياد، ويخطب بنفسه[57]». نقش خاتمه: «عبد الرحمن بقضاء الله راض»،[68] وقيل «بالله يثق عبد الرحمن، وبه يعتصم».[72] وقد عرف بلقب «صقر قريش»، ذلك أنه جلس أبو جعفر المنصور يومًا في أصحابه، فسألهم: «أتدرون من هو صقر قريش؟»، فقالوا له: «أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء». قال: «ما صنعتم شيئًا»، قالوا: «فمعاوية»، قال: «ولا هذا»، قالوا: «فعبد الملك بن مروان»، قال: «لا». قالوا: «فمن يا أمير المؤمنين»، قال: «عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلّص بكيده عن سنن الأسنة، وظُبات السيوف. يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدًا أعجميًا. فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة عزمه. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه. وعبد الملك ببيعة تقدمت له. وأمير المؤمنين بطلب عترته، واجتماع شيعته. وعبد الرحمن منفردًا بنفسه، مؤيدٌ برأيه، مستصحبًا عزمه.[73][74]»
كان عبد الرحمن بن معاوية وافر العزم والدهاء والحزم والصرامة، شديد الحذر، قليل الطمأنينة،[57] فتمكن بحملاته المتوالية على المتمردين على سلطته سواء من العرب أو البربر، التي استخدم فيها كل الوسائل المتاحة لإقرار الأمر في يده، بما في ذلك سلاح الغدر والاغتيال وإزهاق الأرواح دون تردد، مكرسًا بذلك مفهومالمكيافيلية بكل معانيه[75] فغيّر بذلك فكرة الاندفاع وراء العصبية والقبلية التي كانت سائدة في ذاك الوقت، إلى الخضوع والانقياد للسلطة الحاكمة في قرطبة.[76] إلا أنه رغم تلك الطباع القاسية، كان يقعد للعامة ويستمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم. وكان من عاداته، أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه.[4] كما كان لين الجانب مع النصاري، يسير معهم بسياسة الاعتدال والمهادنة، فجعل لهم رئيسًا يسمى "القومس"، يقيم إلى جواره في قرطبة ويستشيره في كثير من الأمور[77]
كان عبد الرحمن أيضًا شاعرًا مجيدًا له شعر مشهور منه هذه الأبيات التي تعبر عن شوقه لربوع الشام التي نشأ فيها، حيث قال:
أيها الركـب الميــمم أرضيأقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمـي كما علمت بأرضوفــؤادي ومـالـكيــه بأرض
قـدّر البيـــن بيننـا فافترقناوطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينافعسى باجتمـاعنا سوف يقضي